فصل: فَصْلٌ: عِدَّةُ الْأَشْهُرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: عِدَّةُ الْأَشْهُرِ:

وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ، وَنَوْعٌ يَجِبُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ فَهُوَ عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ رَأْسًا فِي الطَّلَاقِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا هُوَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِحَقِّ النِّكَاحِ الَّذِي اُسْتُوْفِيَ فِيهِ الْمَقْصُودُ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا- أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الصِّغَرُ أَوْ الْكِبَرُ، أَوْ فَقْدُ الْحَيْضِ أَصْلًا مَعَ عَدَمِ الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، وَالثَّانِي: الدُّخُولُ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَتْ بِالدُّخُولِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِهِ فِي حَقِّ تَأْكِيدِ كُلِّ الْمَهْرِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا، وَتَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ.
وَأَصْلُ الْوُجُوبِ أَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَتْ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ.
وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَهُوَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
، وَأَنَّهَا تَجِبُ لِإِظْهَارِ الْحُزْنِ بِفَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ إذْ النِّكَاحُ كَانَ نِعْمَةً عَظِيمَةً فِي حَقِّهَا فَإِنَّ الزَّوْجَ كَانَ سَبَبَ صِيَانَتِهَا، وَعَفَافِهَا، وَإِيفَائِهَا بِالنَّفَقَةِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالْمَسْكَنِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ بِفَوْتِ النِّعْمَةِ، وَتَعْرِيفًا لِقَدْرِهَا، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَقَطْ فَتَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجِبُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ بِفَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا النِّكَاحَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ وَلَا يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إلَّا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَلِوُجُوبِ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً لَا يَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْقَدْرُ لِمَا نَذْكُرُ.

.فَصْلٌ: عِدَّةُ الْحَبَلِ:

وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْفُرْقَةُ أَوْ الْوَفَاةُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أَيْ: انْقِضَاءُ أَجَلِهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَإِذَا كَانَ انْقِضَاءُ أَجَلِهِنَّ بِوَضْعِ حَمْلِهِنَّ كَانَ أَجَلَهُنَّ؛ لِأَنَّ أَجَلَهُنَّ مُدَّةُ حَمْلِهِنَّ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ إنَّمَا تَجِبُ لِئَلَّا يَصِيرَ الزَّوْجُ بِهَا سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ مِنْ النِّكَاحِ صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَامِلِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزِّنَا جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ تَضَعْ لِئَلَّا يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَقَادِيرِ الْعِدَّةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَقَادِيرِ الْعِدَّةِ، وَمَا تَنْقَضِي بِهِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، وَسَوَاءٌ وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْ بِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِيهِ، وَشُبْهَةُ النِّكَاحِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْمُطَلَّقَةِ يَكُونُ وَارِدًا فِيهَا دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى أَوْ بِمَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَمْ تَجِبْ بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِبْرَاءِ فَيُكْتَفَى بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ عِدَّةً، وَالْعِدَّةُ لَا تُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عِدَّةٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ.
وَإِذَا كَانَ عِدَّةً لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَسَائِرِ الْعِدَدِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَهَا فِرَاشٌ إلَّا أَنَّ فِرَاشَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسْتَحْكَمٍ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَإِذَا أُعْتِقَتْ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ فَالْتَحَقَ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ الَّتِي تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ مُقَدَّرَةً بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلِهَذَا اسْتَوَى فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهَا الْمَوْتُ، وَالْعِتْقُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَعِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَقُرْءَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الْحُرَّةِ.
(وَلَنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَلَوْ اسْتَطَعْت لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً، وَنِصْفًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَاءَ مَخْصُوصَاتٌ مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ مُقَدَّرٌ فَيُؤَثِّرُ الرِّقُّ فِي تَنْصِيفِهِ كَالْقَسَمِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَصَّفَ فَتَعْتَدُّ حَيْضَةً، وَنِصْفًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ ضَرُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِالنِّسَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَسْتَوِي فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْعِدَّةِ الْمُسْلِمَةُ، وَالْكِتَابِيَّةُ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ هَذِهِ الْعِدَّةُ أَنَّهُ الْحَيْضُ أَمْ الْأَطْهَارُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَيْضُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَطْهَارُ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ مِنْ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ، وَعِنْدَهُ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِانْقِضَاءِ ذَلِكَ الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَبِطُهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الزَّوْجُ أَحَقُّ بِمُرَاجَعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} مَا هُوَ الْحَيْضُ أَمْ الطُّهْرِ فَعِنْدَنَا الْحَيْضُ، وَعِنْدَهُ الطُّهْرُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ، وَيُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ الطُّهْرُ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ اسْمِ الْعَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَيْضِ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» أَيْ: أَيَّامَ حَيْضِهَا إذْ أَيَّامُ الْحَيْضِ هِيَ الَّتِي تَدَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا لَا أَيَّامَ الطُّهْرِ.
وَأَمَّا فِي الطُّهْرِ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً أَيْ: طُهْرٍ»، وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» فَدَلَّ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ لَا بِالْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ فِي الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}.
وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لَا فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ، وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْأَطْهَارُ،؛ وَلِأَنَّكُمْ لَوْ حَمَلْتُمْ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْحَيْضِ لَلَزِمَكُمْ الْمُنَاقَضَةُ؛ لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الْمُطَلَّقَةِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَانْقَطَعَ دَمُهَا أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ جَعَلْتُمْ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
(وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ، وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ مِنْ الْأَقْرَاءِ عِنْدَهُ، وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنْ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى وَلَا يَلْزَمُ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَشْهُرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شَهْرَانِ، وَبَعْضُ الثَّالِثِ، فَكَذَا الْقُرُوءُ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْقُرْءَانِ، وَبَعْضُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ اسْمُ جَمْعٍ لَا اسْمُ عَدَدٍ وَاسْمُ الْجَمْعِ جَازَ أَنْ يُذْكَرَ، وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَنْتَظِمُهُ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَيُرَادُ بِهِ مَا دُونَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْت ثَلَاثَةَ رِجَالٍ، وَيُرَادُ بِهِ رَجُلَانِ وَجَازَ أَنْ يُقَالَ رَأَيْت رِجَالًا، وَيُرَادُ بِهِ رَجُلَانِ مَعَ أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ فِي حَدِّ الْجَوَازِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ إذْ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ لِمُعَارَضَةِ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ قَامَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَشْهُرَ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْحَيْضِ، وَالْمُبْدَلُ هُوَ الَّذِي يُشْتَرَطُ عَدَمُهُ لِجَوَازِ إقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُبْدَلَ هُوَ الْحَيْضُ فَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُرْءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} لَمَّا شَرَطَ عَدَمَ الْمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ دَلَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْغُسْلُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ.
كَذَا هَاهُنَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الِانْقِضَاءُ؛ إذْ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ الْعِدَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعْرِيفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»، وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ أَنَّهَا مَا هِيَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ فِي الثَّلَاثَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الطُّهْرُ مِنْ الْقُرُوءِ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاسْمِ التَّذْكِيرِ، وَالتَّأْنِيثِ كَالْبُرِّ، وَالْحِنْطَةِ فَيُقَالُ: هَذَا الْبُرُّ، وَهَذِهِ الْحِنْطَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبُرُّ، وَالْحِنْطَةُ شَيْئًا وَاحِدًا، فَكَذَا الْقُرْءُ، وَالْحَيْضُ أَسْمَاءٌ لِلدَّمِ الْمُعْتَادِ، وَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الْقُرْءُ فَيُقَالُ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَيُقَالُ: ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْحَيْضُ بَاقٍ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ لَا يُنَافِي الْحَيْضَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُدَرُّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَاحْتِمَالُ الدُّرُورِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ قَائِمٌ فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ الطُّهْرُ عِدَّةً لَا يَلْزَمُنَا التَّنَاقُضُ.
وَأَمَّا الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ وَلَا يَأْسٍ فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا فِي الطَّلَاقِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفَرْقِ بِالْحَيْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ، فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ فَتُسْتَأْنَفَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} نَقَلَ اللَّهُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الِارْتِيَابِ إلَى الْأَشْهُرِ.
وَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَهِيَ مُرْتَابَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الِارْتِيَابِ الْمَذْكُورِ هُوَ الِارْتِيَابُ فِي الْيَأْسِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ ارْتِيَابُ الْمُخَاطَبِينَ فِي عِدَّةِ الْآيِسَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ عِدَّةَ ذَاتِ الْقُرُوءِ، وَعِدَّةَ الْحَامِلِ شَكُّوا فِي الْآيِسَةِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا عِدَّتُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} وَلَا يَأْسَ مَعَ الِارْتِيَابِ؛ إذْ الِارْتِيَابُ يَكُونُ وَقْتَ رَجَاءِ الْحَيْضِ، وَالرَّجَاءُ ضِدُّ الْيَأْسِ.
وَكَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ إنْ ارْتَبْتُمْ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِارْتِيَابُ فِي الْإِيَاسِ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: إنْ ارْتَبْنَ، فَدَلَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: فِي بَيَانِ مِقْدَارِهَا وَمَا تَنْقَضِي بِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ الِانْقِضَاءُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَالْبَالِغَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ الْحَيْضَ أَصْلًا فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}؛ وَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ تَدُلُّ عَلَى الْأَقْرَاءِ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّرٌ بِالثَّلَاثِ كَذَا الْبَدَلُ، سَوَاءٌ وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِعُمُومِ النَّصِّ أَوْ وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوَبِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ.
وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أَوْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرٌ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَقَدْ تَنَصَّفَ الْمُبْدَلُ فَيَتَنَصَّفُ الْبَدَلُ؛ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُتَنَصَّفٌ، وَالتَّكَامُلُ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِيء، وَالشَّهْرُ مُتَجَزِّئٌ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا تَتَنَصَّفُ عِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِدَّةِ جَانِبُ النِّسَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أَوْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
وَمَا وَجَبَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقِيلَ إنَّمَا قُدِّرَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَقِيلَ: إنَّمَا قُدِّرَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَبَلُ إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرَانِ، وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا بِالْإِجْمَاعِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُسْلِمَةُ، وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِقْدَارِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَانْقِضَاءُ هَذِهِ الْعِدَّةِ بِانْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ.
(وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ انْقِضَاءُ هَذِهِ الْعِدَّةِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الْعِدَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ، وَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا اتَّفَقَ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَتْ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الْعَدَدِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً، وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَتَعْتَدُّ مِنْ الطَّلَاقِ، وَأَخَوَاتِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَمِنْ الْوَفَاةِ مِائَةً، وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ، وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ، وَتُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ بِالْأَيَّامِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ، وَالْأَشْهُرُ اسْمُ الْأَهِلَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِدَادِ هُوَ الْأَهِلَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جَعَلَ الْهِلَالَ لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ إلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْهِلَالِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَدَلْنَا عَنْهُ إلَى الْأَيَّامِ وَلَا تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَهِلَّةِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا كَذَلِكَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ.
كَذَا هَاهُنَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الِاحْتِيَاطُ فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الْأَيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا بِالْأَهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنْ الْأَيَّامِ فَكَانَ إيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَيَصِيرُ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ فَيَكُونُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا لَيْسَ كَعِدَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ.
وَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّهْرِ فِيهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَيُكْمِلُ مِائَةً، وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا يُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَلَا إلَى تَمَامِهِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ،، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَيَّامِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يُوجِبُ تَأْخِيرَ الْفُرْقَةِ، وَاعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ يُوجِبُ التَّعْجِيلَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِمُدَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَشَكَّ فِي الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ وَاقِعٌ بِيَقِينٍ، وَحُكْمُهُ مُتَأَجِّلٌ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّأْجِيلِ لَا يَتَأَجَّلُ بِالشَّكِّ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَمِقْدَارُهَا بَقِيَّةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِيَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ وَالْمَيِّتُ عَلَى سَرِيرِهِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هَكَذَا ذُكِرَ، وَالسُّنَّةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَشَرْطُ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَتْ قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ رَأْسًا بِأَنْ أَسْقَطَتْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ وَلَدٌ فَقَدْ وُجِدَ وَضْعُ الْحَمْلِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ وَلَدًا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقَعَ الشَّكُّ فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يُرَى لِلنِّسَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُشَاهِدْنَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ فِي الرَّحِمِ لِيَقِسْنَ هَذَا عَلَيْهِ فَيَعْرِفْنَ.
وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ انْحَلَّ فَلَيْسَ بِوَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ فَهُوَ وَلَدٌ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ كَبِدِهَا أَوْ لَحْمِهَا انْفَصَلَتْ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنْحَلُّ بِالْمَاءِ الْحَارِّ كَمَا لَا يَنْحَلُّ الْوَلَدُ، فَلَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ وَلَدٌ.
وَلَوْ ظَهَرَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا: إنَّهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَكْثَرُ وَلَدِهَا أَنَّهَا تَبِينُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ أَيْضًا بِظُهُورِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا وَلَا يُقَامُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا أَيْضًا ثُمَّ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِلَا خِلَافٍ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّتُهَا بِوَضْعِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْحَامِلَ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ وُضِعَ الْحَمْلُ أَوْ مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ.
(وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنَّمَا ذُكِرَ فِي الطَّلَاقِ لَا فِي الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الْمُطَلَّقَاتُ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْحَبَلِ إنْ كَانَ أَجَلُ تِلْكَ الْعِدَّةِ أَبْعَدَ، وَعَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ إنْ كَانَ أَجَلُهَا أَبْعَدَ فَكَانَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيمَا قُلْتُمْ عَمَلٌ بِإِحْدَاهُمَا، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْأُخْرَى أَصْلًا فَكَانَ مَا قُلْنَا أَوْلَى، وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَوْلُهُ هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ، وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: {إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِارْتِيَابُ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ الْقُرْءَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي الْآيِسَاتِ إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَامِلُ مِمَّنْ تَحِيضُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَهُمْ شَكٌّ فِي عِدَّتِهَا لِيَسْأَلُوا عَنْ عِدَّتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا مُبْتَدَأً تَنَاوَلَ الْعِدَدَ كُلَّهَا.
وَقَوْلُهُ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ عَمَلٌ بِالْآيَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَيُقَالُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ إحْدَاهُمَا بِالتَّقَدُّمِ، وَالتَّأَخُّرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ آخِرُهُمَا نُزُولًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، فَأَمَّا نَسْخُ الْأَشْهُرِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ فَيُنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ يُعْمَلُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ بِعُمُومِهِ، وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى التَّنَاسُخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ، وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ نُزُولِ قَوْلِهِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ أَمْ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيهِمَا جَمِيعًا» وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ».
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ».
وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ لَهَا: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ»، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ لَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُسْتَسْعَاةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِعُمُومِ النَّصِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ إلَّا فِي امْرَأَةِ الصَّغِيرِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَنْ مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْهُ بِيَقِينٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَانَ مِنْ الزِّنَا، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَالْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا، وَكَالْحَمْلِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَقَوْلُهُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَهَذَا حَمْلٌ مِنْ الزِّنَا فَيَكُونُ مَخْصُوصًا مِنْ الْعُمُومِ، فَنَقُولُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا قَدْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ الزِّنَا جَازَ نِكَاحُهَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادَةِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ فَكَانَ إيجَابُ مَا دَلَّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى وَلَا أَثَرَ لِلنَّسَبِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْأَثَرُ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ حَائِلٌ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ بِالْإِجْمَاعِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}؛ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ الْحَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَبَلِ فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ عَادَةً إلَّا مِنْ الْمَاءِ، وَالصَّبِيُّ لَا مَاءَ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي زَوْجَةِ الْكَبِيرِ تَأْتِي بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إقْرَارٌ مِنْهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَحَرُّزِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ.
وَلَمْ يَرِدْ عَلَى إقْرَارِهَا مَا يُبْطِلُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا لِمَا بَيَّنَّا فَهاَهُنَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ مِنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَالَهُنَّ، فَإِذَا وَضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، إلَّا أَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُرِئَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنْ يَضَعْنَ أَحْمَالَهُنَّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَّقَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى: {يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ: يَلِدْنَ، وَالْحَمْلُ: اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَوَضْعُ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ وَضْعُ بَعْضِ حَمْلِهَا، لَا وَضْعُ حَمْلِهَا، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؛ وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ إنَّمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِوَضْعِهِ، وَمَا دَامَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِهِ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ.